فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري، فمعنى قوله: {أرِنِي} أي: اجعلني عالمًا بك علمًا ضروريًا خلاف ظاهر. فإن النظر الموصول بإلى نص في الرؤية البصرية فلا يترك بالإحتمال، مع أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول.
وكذا زعمهم أن موسى عليه السلام، كان سألها لقومه حيث قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}، فسأل ليعلموا امتناعها، فإنه خلاف الظاهر، وتكلف يذهب رونق النظم، فترده ألفاظ الآية. وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة، بالكتاب والسنة، أما الكتاب فلقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة إلى ربِّهاَ ناظِرةٌ}، وأما السنة فلا تحصى أحاديثها ولكن إذا أصيب أحد بداء المكابرة في الحق الصراح، عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة.
قال في فتح البيان: رؤيته تعالى في الآخرة، ثبتت بها الأحاديث المتواترة تواترًا لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة. ومنهج الحق واضح، ولكن الإعتقاد لمذهب نشأ الْإِنْسَاْن عليه، وأدرك عليه أباه، وأهل بلده، مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب. والمتعصب، وإن كان بصره صحيحًا، فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق، غفلة منه، وجهلًا بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقى ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع، فإنه صار بها باب الحق مرتجًا، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية:
يأبى الفتى إلا اتّباعَ الهوى ** ومَنْهَجُ الحقِّ له واضِحُ

انتهى.
وهذا تعريض بالمعتزلة، وفي مقدمتهم الزمخشري، وقد انتقل- عفا الله عنه- أخيرًا إلى هجاء أهل السنة بما أنشده:
لجماعة سموا هواهم سنة ** وجماعة حمر لعمري موكفه

قد شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وتَخَوَّفُوا ** شُنْعَ الورى فَتَسَتَّرُوا بِالْبَلْكَفَهْ

والبلكفة نحتٌ، كالبسملة، أي: بقولهم: بَلا كَيْفَ.
قال في الانتصاف: ولولا الإستنان بحسان بن ثابت الأنصاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره، والمنافح عنه، وروح القدس معه، لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية وبالناجين سلامًا، ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءهم، فنقول:
وجماعةٌ كفروا برؤية ربِّهم ** حقًا ووعدُ الله ما لن يُخلفَهْ

وتلقَّبوا عدليَّة قلنا: أجل ** عدلوا بربهم فحسبهمو سفَهْ

وتلقَّبوا الناجين كلاَّ إنهم ** إن لم يكونوا في لظى فَعلَى شفَهْ

وقال أبو حيان في الرد عليه:
شبهت جهلًا صدر أمة أحمدٍ وذوي ** البصائر بالحمير المُوكَفَهْ

وجب الخسار عليك فانظر منصفًا ** في آية الأعراف فهي المنصفهْ

أتُرى الكليم أتى بجهلٍ ما أتى ** وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفهْ

إن الوجوه إليه ناظرةٌ بذا ** جاء الكتاب فقلتم: هذا سفهْ

نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى ** فهوى الهوى بك في المهاوي المتلفهْ

وقال العلامة الجاربردي:
عجبًا لقوم ظالمين تستَّروا ** بالعدل ما فيهم لعمري معرفهْ

قد جاءهم من حيث لا يدرونه ** تعطيل ذات الله مع نفي الصِّفهْ

وقد ساق السبكي في طبقاته في ترجمة الجاربردي عدة قصائد ومقاطيع في الرد عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}.
جُعل مجيءُ موسى في الوقت المعين أمرًا حاصلًا غير محتاج للإخبار عنه، للعلم بأن موسى لا يتأخر ولا يترك ذلك، وجُعل تكليمُ الله إياه في خلال ذلك الميقات أيضًا حاصلًا غير محتاج للإخبار عن حلوله، لظهور أن المواعدة المتضمنة للملاقاة تتضمن الكلام، لأن ملاقاة الله بالمعنى الحقيقي غير مُمكنة، فليس يحصل من شؤون المواعدة إلاّ الكلام الصادر عن إرادة الله وقدرته، فلذلك كله جُعل مجيء موسى للميقات وتكليم الله إياه شرطًا لحرف لما لأنه كالمعلوم، وجعل الإخبار متعلقًا بما بعد ذلك، وهو اعتبار بعظمة الله وجلاله، فكان الكلام ضربًا من الإيجاز بحذف الخبر عن جملتين اسغناء عنهما بأنهما جعلتا شرطًا للمّا.
ويجوز أن تجعل الواو في قوله: {وَكلّمه ربه} زائدة في جواب {لمّا} كما قاله الأكثر في قول امرئ القيس:
فلمّا أجَزْنَا ساحةَ الحي وانتحى ** بنا بطْنُ خبت ذي حقاف عقنقل

أن جواب {لَما} هو قوله وانتحى، وجوزوه في قوله تعالى: {فلمّا أسلما وتَلْه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم} [الصافات: 103، 104] الآية، أن يكون {وناديناه} هو جواب لما فيصير التقدير: لما جاء موسى لميقاتنا كَلّمه ربه، فيكون إيجازًا بحذف جملة واحدة، ولا يستفاد من معنى إنشاء التكليم الطمع في الرؤية إلاّ من لازم المواعدة.
واللام في قوله: {لميقاتنا} صنفٌ من لام الاختصاص، كما سماها في الكشاف ومثلها بقولهم: أتيته لعشر خلَون من الشهر، يعني أنه اختصاص مّا، وجعلها ابن هشام بمعنى عند، وجعل ذلك من معاني اللام وهو أظهر، والمعنى: فلما جاء موسى مجيئًا خاصًا بالميقات أي: حاصلًا عنده لا تأخير فيه، كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] وفي الحديث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل فقال: «الصلاة لوقتها» أي عند وقتها ومنه {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1].
ويجوز جعل اللام للأجل والعلة، أي جاء لأجل ميقاتنا، وذلك لما قدمناه من تضمن الميقات معنى الملاقاة والمناجاة، أي جاء لأجل مناجاتنا.
والمجيء: انتقاله من بين قومه إلى جبل سينا المعيّن فيه مكانُ المناجاة.
والتكليم حقيقته النطق بالألفاظ المفيدة معانيَ بحسب وضع مصطلح عليه، وهذه الحقيقة مستحيلة على الله تعالى لأنها من أعراض الحوادث، فتعين أن يكون إسناد التكليم إلى الله مجازًا مستعملًا في الدلالة على مُراد الله تعالى بألفاظ من لغة المخاطَب به بكيفية يوقن المخاطَب به أن ذلك الكلام من أثر قدرة الله على وَفْق الإرادة ووَفْقِ العلم، وهو تعلق تنجيزي بطريق غير معتاد، فيجوز أن يخلق الله الكلام في شيء حادث سمعه موسى كما رُوي أن الله خلق الكلام في الشجرة التي كان موسى حذوها، وذلك أولُ كلام كلّمه الله موسى في أرض مَدين في جبل حوريب، ويجوز أن يخلق الله الكلام من خِلال السحاب وذلك الكلام الواقع في طُور سينا، وهو المراد هنا، وهو المذكور في الإصحاح 19 من سفر الخروج.
والكلام بهذه الكيفية كان يسمعه موسى حين يكون بعيدًا عن الناس في المناجاة أو نحوها، وهو أحد الأحوال الثلاثة التي يكلم الله بها أنبياءه كما في قوله تعالى: {وما كان لِبَشَرٍ أن يكلمه الله إلاّ وحيا} الآية في سورة الشورى (51)، وهو حادث لا محالة ونسبته إلى الله أنه صادر بكيفية غير معتادة لا تكون إلاّ بإرادة الله أن يخالف به المعتاد تشريفًا له، وهو المعبر عنه بقوله: {أوْ منْ وراء حجاب} [الشورى: 51]، وقد كلم الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وأحسب الأحاديث القدسية كلها أو معظمها مما كلم الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم وأما إرسال الله جبريل بكلام إلى أحد أنبيائه، فهي كيفية أخرى، وذلك بإلقاء الكلام في نفس المَلَك الذي يبلغه إلى النبي، والقرآنُ كله من هذا النوع، وقد كان الوحي إلى موسى بواسطة الملَك في أحوال كثيرة وهو الذي يعبر عنه في التوراة بقولها: قال الله لموسى.
وقوله: {قال رب أرني} هو جواب {لَمّا} على الأظهر، فإنْ قدرنا الواو في قوله: {وكلمهُ} زائدة في جواب لما كان قوله: {قال} واقعًا في طريق المحاورة فلذلك فُصل.
وسؤالُ موسى رؤية الله تعالى تطلّع إلى زيادة المعرفة بالجلال الإلهي، لأنه لما كانت المواعدة تتضمن الملاقاة.
وكانت الملاقاة تعتمد رؤية الذات وسماع الحديث، وحصل لموسى أحد ركني الملاقاة وهو التكليم، أطمعه ذلك في الركن الثاني وهو المشاهدة، وممّا يؤذن بأن التكليم هو الذي أطمع موسى في حصول الرؤية جعْلُ جملة {وكلمه ربه} شرطًا لحرف لما لأن لما تدل على شدة الارتباط بين شرطها وجوابها، فلذلك يكثر أن يكون علة في حصول جوابها كما تقدم في قوله تعالى: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما} في هذه السورة (22)، هذا على جعل {وكَلمه} عطفًا على شرط لمّا، وليسَ جوابَ لما، ولا نشك في أنه سأل رؤية تليق بذات الله تعالى، وهي مثل الرؤية الموعود بها في الآخرة، فكان موسى يحسب أن مثلِها ممكن في الدنيا حتى أعلمه الله بأن ذلك غير واقع في الدنيا، ولا يمتنع على نبي عدمُ العلم بتفاصيل الشؤون الإلهية قبل أن يُعلمها الله إياه، وقد قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {وقُل رب زدني علمًا} [طه: 114]، ولذلك كان أئمة أهل السنة محقين في الاستدلال بسؤال موسى رؤية الله على إمكانها بكيفية تليق بصفات الإلاهية لا نعلم كنهها وهو معنى قولهم: بلا كيف.
وكانَ المعتزلةُ غير محقين في استدلالهم بذلك على استحالتها بكل صفة.
وقد يؤول الخلاف بين الفريقين إلى اللفظ، فإن الفريقين متفقان على استحالة إحاطة الإدراك بذات الله واستحالة التحَيز، وأهل السنة قاطعون بأنها رؤية لا تنافي صفات الله تعالى، وأما ما تبجح به الزمخشري في الكشاف فذلك من عُدوان تعصبه على مخالفيه على عادته، وما كان ينبغي لعلماء طريقتنا التنازلُ لمهاجاته بمثل ما هاجاهم به، ولكنه قال فأوْجَب.
وأعلم أن سؤال موسى رؤية الله تعالى طلبٌ على حقيقته كما يؤذن به سياق الآية وليس هو السؤالَ الذي سأله بنوا اسرائيل المحكي في سورة البقرة (55) بقوله: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} وما تمحل به في الكشاف من أنه هو ذلك السؤال تكلفٌ لا داعي له.
ومفعول {أرني} محذوف لدلالة الضمير المجرور عليه في قوله: {إليك}.
وفصل قوله: {قالَ لنْ تراني} لأنه واقع في طريق المحاورة.
و{لَن} يستعمل لتأبيد النفي ولتأكيد النفي في المستقبل، وهما متقاربان، وإنما يتعلق ذلك كله بهذه الحياة المعبر عنها بالأبد، فنفت {لن} رؤية موسى ربّه نفيًا لا طمع بعده للسائِل في الإلحاح والمراجعة بحيث يَعلم أن طلبته متعذرة الحصول، فلا دلالة في هذا النفي على استمراره في الدار الآخرة.
والاستدراك المستفاد من {لكن} لرفع توهم المخاطَب الاقتصارَ على نفي الرؤية بدون تعليل ولا إقناع، أو أن يتوهم أن هذا المنع لغضب على السائِل ومنقصة فيه، فلذلك يعلم من حرف الاستدراك أن بعض ما يتوهمه سيُرفع، وذلك أنه أمره بالنظر إلى الجبل الذي هو فيه هل يثبت في مكانه، وهذا يعلم منه أن الجبل سيتوجه إليه شيءٌ من شأن الجلال الإلهي، وأن قوة الجبل لا تستقر عند ذلك التوجه العظيم، فيعلم موسى أنه أحرى بتضاؤل قواه الفانية لو تجلى له شيء من سُبُحات الله تعالى.
وعلق الشرط بحرف أن لأن الغالب استعمالها في مقام ندرة وقوع الشرط أو التعريض بتعَذره، ولما كان استقرار الجبل في مكانه معلومًا لله انتفاؤه، صح تعليق الأمر المرادِ تعذُر وقوعُه عليه بقطع النظر عن دليل الانتفاء، فلذلك لم يكن في هذا التعليق حجَة لأهل السنة على المعتزلة تقتضي أن رؤية الله تعالى جائزة عليه تعالى، خلافًا لما اعتاد كثيرٌ من علمائنا من الاحتجاج بذلك.
وقوله: {فسوف تراني} ليس بوعد بالرؤية على الفرض لأن سُبق قوله: {لن تراني} أزال طماعية السائل الرؤية، ولكنه إيذان بأن المقصود من نظرِه إلى الجبل أن يرى رأي اليقين عجزَ القوة البشرية عن رؤية الله تعالى بالأحرى، من عدم ثبات قوة الجبل، فصارت قوة الكلام: أن الجبل لا يستقر مكانه من التجلي الذي يحصل عليه فلست أنت بالذي تراني، لأنك لا تستطيع ذلك، فمنزلة الشرط هنا منزلة الشرط الامتناعي الحاصل بحرف لو بدلالة قرينة السابِق.